الأربعاء، 13 فبراير 2013

فن استنطاق البهائم




يحكى أنه كانت هناك غابة جميلة حيث كانت تقطن الحيوانات في وادي غزير الكلأ وافر الخيرات فنزل على هذا الوادي أسد فهدد أمن الحيوانات فاتفقت الحيوانات على أن ترسل لهذا الأسد رسولاً يخبره أن الحيوانات ستبعث له مع مطلع كل يوم دابة يتغذى بها ففرح الأسد لأنه ضمن غذاؤه كل يوم بدون عناء ، ونفذت الحيوانات وعدها فكانت ترسل له الدواب التي وعدوه بها ، و في يوم من الأيام أجرت الحيوانات قرعة لمن يأخذ للأسد الدابة فأصابت القرعة أرنباً ذكياً قال للحيوانات:عندي فكرة تريحكم من الأسد و يصبح موطننا ملك لنا ، قالت الحيوانات متلهفة : ما هذه الفكرة؟ قال الأرنب : ستعرفونها بعد نجاحها، فذهب الأرنب إلى الأسد يلهث و التعب ظاهر على وجهه فقال له الأسد : ما بك؟ وأين طعامي؟ فقال الأرنب : أنا رسول الحيوانات إليك و جئتك بأرنب سمين فتبعني أسد و أخذه وقال أنا أولى بهذه الحيوانات ، فقلت له : إن هذا الأرنب هو غذاء الملك فسبك يا مولاي! أما أنا هربت و جئتك مسرعاً لأخبرك ، فثار الأسد ثورة عارمة و طلب من الأرنب أن يرشده إلى طريق ذلك الأسد ، فأخذه الأرنب إلى جب مغمور بالماء و قال له: إنه هنا ، ولما نظر الأسد رأى صورته و صورة الأرنب في الجب فلم يشك في قوله ووثب في الجب حتى غرق ، فشكرت الحيوانات الأرنب على ذكائه و حسن تصرفه.

إن فن استخدام شخصيات حيوانية أو بهائمية لتجسيد بطولة قصص نقدية في رواية أو شعر أو مقال يعد واحداً من الفنون الكتابية القديمة ، وقد كانت رائجة جداً في فترات تاريخية معينة خصوصا تلك الفترات التي تميزت بالظلم والقهر والاستبداد والقمع الفكري ، حيث كان الكاتب يلجأ إلى استنطاق بهيمة معينة كـ " الحمار " أو " الكلب " في روايته ليتحدث بلسان حاله ويقول ماكان يود الكاتب قوله أو ماكان يود أن يبديه من أفكار أو انتقادات لشخصية سياسية معينة محرمٌ المساس بها او الاشارة إليها او نقدها وإن جانبت الصواب ! فقد ارتبط هذا الفن الكتابي بشكل كبير جداً بالنقد الاصلاحي السياسي ، فالرمزية والتورية والمجاز والتشبيه والاستبدال والسخرية وصيغ المبني للمجهول وغيرها من فنون اللغة العربية كانت هي الحل والباب الخلفي الذي يستطيع من خلاله الكاتب أن يقول مايشاء دون خوف أو تردد ، فالمتحدث في روايته لسان بهيمه .. وبالتالي فإن مايقوله ماهو إلا من نسج الخيال وإن تشابهت بعض أو الكثير من الأحداث مع الواقع ! فالتشابه هنا من باب المصادفة ليس إلا ، كتلك القصص التي كانت تدرس بالمناهج الدراسية عندما كنا بالمرحلة الابتدائية ويتجسد أبطالها بالأسد والكلب والغراب والطاؤوس وغيرها !! .
يكاد يجمع جمهور المؤرخين على أن الحكيم اليوناني "ايزوب" او "ايزوبس" والذي يعتقد انه كان وزير نبي الله سليمان عليه السلام هو أول من ابتكر فن استخدام الحيوانات في الكتابة النقدية السياسية الإصلاحية ذلك أن سيدنا سليمان تعامل مع الحيوانات أثناء ممارسة الحكم كالهدهد والنمل ، ويعد عبدالله بن المقفع أول من وضع كتاباً في هذا الفن الإبداعي باللغة العربية من خلال كتاب كليلة ودمنة وهو كتاب مترجم من اللغة الهندية اسمه "ينج تنترا" للفيلسوف الهندي الكبير "بيديا" وقد قدمه للملك الهندي "دبلشيم" ، وقد قتل أبو جعفر المنصور عبدالله بن المقفع على يد سفيان ابن معاوية حيث أخذ بتقطيعه عضواً عضواً ويرمي به في التنور ويكرهه على أكل جسده مشويًا حتى مات بسبب هذا النوع من الكتابة النقدية ! صحيح أن عبدالله بن المقفع دفع الثمن غالياً إلا أن هذا الفن من الكتابة بقي حياً مستخدماً إلى يومنا هذا .


حقيقة .. نجحت الكتابة الرمزية باستخدام البهائم في كثير من الفترات التاريخية في ايصال رسالتها بشكل مستتر ومباشر إلى الموجهة لهم ، ونجحت في تغيير بعض الأحوال السائدة بشكل إيجابي ، فبعض الملوك فهم المقصود وجعلها أحد مصادره المهمة للوصول إلى حقائق الأمور دون تدخل من البطانة التي قد تكون سيئة أو فاسدة ، وبالتالي فقد كانت تلك الروايات بالنسبة له أحد المستشارين المباشرين ، في حين أن البعض الآخر امتعض من ذلك النوع من الكتابات وجعل من كتابها أعداءاً وقام بالتنكيل بهم بل وقتلهم كما فعل المنصور بعبدالله بن المقفع كما سبق القول ، وكذلك كان رجالات بعض البطانات السيئة يحاول بشتى الطرق ابعاد مثل تلك المقالات والروايات والقصص عن الملك ليضمن بقاءه بعيدا عن حقائق الامور وقاموا بالتضييق على الكتاب بشتى الطرق في محاولة لثنيهم عن هذا الفن بل وحبسهم والتنكيل بهم بحجج واهية وتهم مفتعلة !! فالتاريخ العربي والاسلامي حافل وملئ بأسماء الكتاب والمثقفين والشعراء الذين قتلوا وعذبوا وسجنوا واضطهدوا بسبب الكتابة السياسية النقدية الإصلاحية .

وبالرغم من أن فن الكتابة باستخدام البهائم لم يتطور كثيراً في الأدب العربي خوفا من التنكيل ، إلا أنه قد ظهرت بعض المحاولات الأدبية المستخدمة لهذا النوع من الفنون ككتاب " الحمير " لتوفيق الحكيم ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل ياترى سنلاحظ عودة من قبل الكتاب والأدباء العرب في المدى القريب لممارسة هذا النوع من أنواع الفنون الكتابية ؟! 






















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الشريط الاخبارى لقنات الجزيرة